2012-02-06
نيويورك
ــ لعل أفضل تصوير للتيارات السياسية
المعاكسة، والمصالح الخاصة، والاقتصاديات القصيرة النظر في أوروبا الآن يتلخص في
تلك المناقشة الدائرة حول إعادة هيكلة الديون السيادية اليونانية. فألمانيا تصر
على إعادة الهيكلة العميقة ــ "تقليم" أصول الدين بما لا يقل عن 50%
لحاملي السندات ــ في حين يصر البنك المركزي الأوروبي على أن تكون أي إعادة لهيكلة
الديون طوعية.
في
الماضي ــ أثناء أزمة الديون التي ضربت أميركا اللاتينية في ثمانينيات القرن
العشرين على سبيل المثال ــ كان بوسع المرء جمع الدائنين (البنوك الكبرى في
الأغلب) في غرفة صغيرة، والتوصل إلى اتفاق، بالاستعانة ببعض المداهنة، أو حتى
سياسة لي الذراع، من قِبَل الحكومات والجهات التنظيمية الحريصة على سير الأمور
بسلاسة. ولكن مع ظهور عمليات تحويل الديون إلى أوراق مالية، أصبح الدائنون أكثر
عددا، وبات من بينهم صناديق التحوط وغير ذلك من الجهات المستثمرة التي لا تستطيع
الأجهزة التنظيمية والحكومات فرض نفوذها عليها.
وفضلاً
عن ذلك، كان "الإبداع" في الأسواق المالية سبباً في تمكين التأمين على
مالكي الأوراق المالية، وهذا يعني أنهم لديهم مقعد على الطاولة، ولكنهم غير قادرين
على تغيير قواعد اللعبة. وهم لديهم مصالح في الأمر: فهم يريدون تحصيل تأمينهم،
وهذا يعني أن إعادة الهيكلة لابد وأن تكون "حدثاً ائتمانيا" ــ يعادل
التخلف عن السداد. والواقع أن إصرار البنك المركزي الأوروبي على "طوعية"
إعادة الهيكلة ــ بمعنى تجنب الحدث الائتماني ــ كان سبباً في جعل الجانبين على
خلاف مستمر. والمفارقة هنا هي أن الأجهزة التنظيمية هي التي سمحت بخلق هذا النظام
المختل.
إن
هذا الموقف الذي يتبناه البنك المركزي الأوروبي غريب. وكان المرء ليتمنى أن تقوم
البنوك بإدارة مخاطر التخلف عن سداد ديون السندات في محافظها الاستثمارية عن طريق
شراء التأمين. فإذا اشترت البنوك التأمين، فإن الجهة التنظيمية المعنية بالاستقرار
الشامل كانت لترغب في التأكد من سداد الجهة المؤمِّنة في حالة الخسارة. ولكن البنك
المركزي الأوروبي يريد أن تتكبد البنوك خسارة تعادل 50% مما تحتفظ به من سندات،
ومن دون اضطرار أي جهة إلى سداد "فوائد" التأمين.
هناك
ثلاثة تفسيرات لموقف البنك المركزي الأوروبي، ولا تؤيد أي من التفسيرات هذه
المؤسسة أو جهازها التنظيمي أو سلوكها الرقابي. يتخلص التفسير الأول في أن البنوك
لم تشتر التأمين في واقع الأمر، بل إن بعضها اتخذ مراكز مضاربة. والثاني يشير إلى
أن البنك المركزي الأوروبي يدرك أن النظام المالي يفتقر إلى الشفافية ــ ويدرك أن
المستثمرين يعرفون أنهم غير قادرين على قياس تأثير التخلف غير الطوعي (القسري) عن
سداد الديون، والذي قد يؤدي إلى تجمد أسواق الائتمان، الأمر الذي قد يعيد أجواء ما
بعد انهيار ليمان براذرز في سبتمبر/أيلول 2008. وأخيرا، ربما يحاول البنك المركزي
الأوروبي حماية البنوك القليلة التي سجلت التأمين.
والواقع
أن أياً من هذه التفسيرات لا يكفي كمبرر لمعارضة البنك المركزي الأوروبي لإعادة
الهيكلة العميقة غير الطوعية لديون اليونان. وكان ينبغي للبنك المركزي الأوروبي أن
يصر على المزيد من الشفافية ــ بل إن هذا كان من الواجب أن يشكل واحداً من الدروس
الرئيسية المستفادة من عام 2008. وما كان من ينبغي للجهات المنظمة أن تسمح للبنوك
بالمضاربة كما فعلت؛ بل كان من الواجب أن تلزمها بشراء التأمين ــ ثم تصر بعد ذلك
على إعادة الهيكلة على النحو الذي يضمن سداد التأمين.
وليس
هناك فضلاً عن ذلك سوى القليل من الأدلة التي تشير إلى أن إعادة الهيكلة غير
الطوعية العميقة قد تكون سبباً أعظم للصدمة من إعادة الهيكلة الطوعية العميقة.
وبالإصرار على طوعية إعادة الهيكلة، فإن البنك المركزي الأوروبي ربما يحاول ضمان
ألا تكون إعادة الهيكلة عميقة؛ ولكنه في هذه الحالة يضع مصالح البنوك قبل مصلحة
اليونان، التي تشكل عملية إعادة الهيكلة العميقة بالنسبة لها ضرورة أساسية إذا كان
لها أن تخرج من الأزمة. والواقع أن البنك المركزي الأوروبي ربما يضع مصالح هذه
القِلة من البنوك التي سجلت مقايضات العجز عن سداد الائتمان قبل مصالح اليونان،
ومصالح دافعي الضرائب، والدائنين الذين تصرفوا بحكمة واشتروا التأمين.
ويتعلق
الأمر العجيب الأخير فيما يتصل بموقف البنك المركزي الأوروبي بمسألة الحكم
الديمقراطي. ذلك أن اتخاذ القرار بشأن ما إذا كان أي حدث ائتماني قد وقع متروك
للجنة سرية تابعة للجمعية الدولية للمبادلات والمشتقات، وهو مجموعة ذات مصالح خاصة
في النتيجة. وإذا كانت التقارير الإخبارية صحيحة، فإن بعض أعضاء اللجنة كانوا
يستخدمون وضعهم للترويج للمزيد من المواقف التفاوضية الأكثر تكيفا. ولكن يبدو من
غير المعقول أن يفوض البنك المركزي الأوروبي حق تحديد شكل إعادة هيكلة الديون
المقبولة للجنة سرية تتألف من مشاركين من ذوي المصالح الخاصة في السوق.
والواقع
أن الحجة الوحيدة التي تبدو ــ ولو ظاهريا ــ وكأنها تضع المصالح العامة قبل كل
شيء آخر هي أن إعادة الهيكلة غير الطوعية قد تؤدي إلى العدوى المالية، في حين
تواجه بلدان كبرى في منطقة اليورو مثل إيطاليا وأسبانيا، بل وحتى فرنسا، ارتفاعاً
حاداً في تكاليف الاقتراض. ولكن هذا يطرح السؤال التالي: لماذا ينبغي لأي عملية
إعادة هيكلة غير طوعية أن تؤدي إلى عدوى أشد سوءاً من إعادة الهيكلة الطوعية بنفس
العمق؟ إذا كان النظام المصرفي خاضعاً للتنظيم الجيد، حيث تشتري البنوك التي تحتفظ
بالديون السيادية التأمين، فإن إعادة الهيكلة غير الطوعية لابد وأن تكون أقل
تشويشاً للأسواق المالية.
وقد يزعم البعض بكل تأكيد أن إفلات اليونان من ورطتها بفضل إعادة الهيكلة غير الطوعية،
من شأنه أن يغري غيرها بتجربتها. وبالتالي فإن الأسواق المالية، المنزعجة إزاء
هذا، قد تسارع إلى رفع أسعار الفائدة على بلدان أخرى معرضة للخطر في منطقة اليورو،
كبيرها وصغيرها.
ولكن الدول الأكثر عُرضة للخطر باتت مستبعدة بالفعل من قِبَل الأسواق المالية، وعلى هذا
فإن احتمال حدوث ذعر كردة فعل سوف يكون محدودا. لا شك أن دولاً أخرى قد تستسلم
لإغراء تقليد اليونان إذا وجدت أن اليونان في حال أفضل حقاً بعد إعادة الهيكلة
مقارنة بعدم إعادة الهيكلة. وهذا صحيح، ولكن الجميع يدركون هذه الحقيقة بالفعل.
ولكن لا ينبغي لسلوك البنك المركزي الأوروبي أن يدهشنا: فكما رأينا في أماكن أخرى، تميل
المؤسسات غير الخاضعة للمساءلة الديمقراطية إلى الوقوع في أسر المصالح الخاصة.
وكان هذا صادقاً حتى قبل عام 2008؛ ومن المؤسف بالنسبة لأوروبا ــ والاقتصاد
العالمي ــ أن المشكلة لم تعالج بالشكل اللائق الوافي منذ ذلك الوقت.
نيويورك ــ لعل أفضل تصوير للتيارات السياسية المعاكسة، والمصالح الخاصة، والاقتصاديات القصيرة النظر في أوروبا الآن يتلخص في تلك المناقشة الدائرة حول إعادة هيكلة الديون السيادية اليونانية. فألمانيا تصر على إعادة الهيكلة العميقة ــ "تقليم" أصول الدين بما لا يقل عن 50% لحاملي السندات ــ في حين يصر البنك المركزي الأوروبي على أن تكون أي إعادة لهيكلة الديون طوعية.
في الماضي ــ أثناء أزمة الديون التي ضربت أميركا اللاتينية في ثمانينيات القرن العشرين على سبيل المثال ــ كان بوسع المرء جمع الدائنين (البنوك الكبرى في الأغلب) في غرفة صغيرة، والتوصل إلى اتفاق، بالاستعانة ببعض المداهنة، أو حتى سياسة لي الذراع، من قِبَل الحكومات والجهات التنظيمية الحريصة على سير الأمور بسلاسة. ولكن مع ظهور عمليات تحويل الديون إلى أوراق مالية، أصبح الدائنون أكثر عددا، وبات من بينهم صناديق التحوط وغير ذلك من الجهات المستثمرة التي لا تستطيع الأجهزة التنظيمية والحكومات فرض نفوذها عليها.
وفضلاً عن ذلك، كان "الإبداع" في الأسواق المالية سبباً في تمكين التأمين على مالكي الأوراق المالية، وهذا يعني أنهم لديهم مقعد على الطاولة، ولكنهم غير قادرين على تغيير قواعد اللعبة. وهم لديهم مصالح في الأمر: فهم يريدون تحصيل تأمينهم، وهذا يعني أن إعادة الهيكلة لابد وأن تكون "حدثاً ائتمانيا" ــ يعادل التخلف عن السداد. والواقع أن إصرار البنك المركزي الأوروبي على "طوعية" إعادة الهيكلة ــ بمعنى تجنب الحدث الائتماني ــ كان سبباً في جعل الجانبين على خلاف مستمر. والمفارقة هنا هي أن الأجهزة التنظيمية هي التي سمحت بخلق هذا النظام المختل.
إن هذا الموقف الذي يتبناه البنك المركزي الأوروبي غريب. وكان المرء ليتمنى أن تقوم البنوك بإدارة مخاطر التخلف عن سداد ديون السندات في محافظها الاستثمارية عن طريق شراء التأمين. فإذا اشترت البنوك التأمين، فإن الجهة التنظيمية المعنية بالاستقرار الشامل كانت لترغب في التأكد من سداد الجهة المؤمِّنة في حالة الخسارة. ولكن البنك المركزي الأوروبي يريد أن تتكبد البنوك خسارة تعادل 50% مما تحتفظ به من سندات، ومن دون اضطرار أي جهة إلى سداد "فوائد" التأمين.
هناك ثلاثة تفسيرات لموقف البنك المركزي الأوروبي، ولا تؤيد أي من التفسيرات هذه المؤسسة أو جهازها التنظيمي أو سلوكها الرقابي. يتخلص التفسير الأول في أن البنوك لم تشتر التأمين في واقع الأمر، بل إن بعضها اتخذ مراكز مضاربة. والثاني يشير إلى أن البنك المركزي الأوروبي يدرك أن النظام المالي يفتقر إلى الشفافية ــ ويدرك أن المستثمرين يعرفون أنهم غير قادرين على قياس تأثير التخلف غير الطوعي (القسري) عن سداد الديون، والذي قد يؤدي إلى تجمد أسواق الائتمان، الأمر الذي قد يعيد أجواء ما بعد انهيار ليمان براذرز في سبتمبر/أيلول 2008. وأخيرا، ربما يحاول البنك المركزي الأوروبي حماية البنوك القليلة التي سجلت التأمين.
والواقع أن أياً من هذه التفسيرات لا يكفي كمبرر لمعارضة البنك المركزي الأوروبي لإعادة الهيكلة العميقة غير الطوعية لديون اليونان. وكان ينبغي للبنك المركزي الأوروبي أن يصر على المزيد من الشفافية ــ بل إن هذا كان من الواجب أن يشكل واحداً من الدروس الرئيسية المستفادة من عام 2008. وما كان من ينبغي للجهات المنظمة أن تسمح للبنوك بالمضاربة كما فعلت؛ بل كان من الواجب أن تلزمها بشراء التأمين ــ ثم تصر بعد ذلك على إعادة الهيكلة على النحو الذي يضمن سداد التأمين.
وليس هناك فضلاً عن ذلك سوى القليل من الأدلة التي تشير إلى أن إعادة الهيكلة غير الطوعية العميقة قد تكون سبباً أعظم للصدمة من إعادة الهيكلة الطوعية العميقة. وبالإصرار على طوعية إعادة الهيكلة، فإن البنك المركزي الأوروبي ربما يحاول ضمان ألا تكون إعادة الهيكلة عميقة؛ ولكنه في هذه الحالة يضع مصالح البنوك قبل مصلحة اليونان، التي تشكل عملية إعادة الهيكلة العميقة بالنسبة لها ضرورة أساسية إذا كان لها أن تخرج من الأزمة. والواقع أن البنك المركزي الأوروبي ربما يضع مصالح هذه القِلة من البنوك التي سجلت مقايضات العجز عن سداد الائتمان قبل مصالح اليونان، ومصالح دافعي الضرائب، والدائنين الذين تصرفوا بحكمة واشتروا التأمين.
ويتعلق الأمر العجيب الأخير فيما يتصل بموقف البنك المركزي الأوروبي بمسألة الحكم الديمقراطي. ذلك أن اتخاذ القرار بشأن ما إذا كان أي حدث ائتماني قد وقع متروك للجنة سرية تابعة للجمعية الدولية للمبادلات والمشتقات، وهو مجموعة ذات مصالح خاصة في النتيجة. وإذا كانت التقارير الإخبارية صحيحة، فإن بعض أعضاء اللجنة كانوا يستخدمون وضعهم للترويج للمزيد من المواقف التفاوضية الأكثر تكيفا. ولكن يبدو من غير المعقول أن يفوض البنك المركزي الأوروبي حق تحديد شكل إعادة هيكلة الديون المقبولة للجنة سرية تتألف من مشاركين من ذوي المصالح الخاصة في السوق.
والواقع أن الحجة الوحيدة التي تبدو ــ ولو ظاهريا ــ وكأنها تضع المصالح العامة قبل كل شيء آخر هي أن إعادة الهيكلة غير الطوعية قد تؤدي إلى العدوى المالية، في حين تواجه بلدان كبرى في منطقة اليورو مثل إيطاليا وأسبانيا، بل وحتى فرنسا، ارتفاعاً حاداً في تكاليف الاقتراض. ولكن هذا يطرح السؤال التالي: لماذا ينبغي لأي عملية إعادة هيكلة غير طوعية أن تؤدي إلى عدوى أشد سوءاً من إعادة الهيكلة الطوعية بنفس العمق؟ إذا كان النظام المصرفي خاضعاً للتنظيم الجيد، حيث تشتري البنوك التي تحتفظ بالديون السيادية التأمين، فإن إعادة الهيكلة غير الطوعية لابد وأن تكون أقل تشويشاً للأسواق المالية.
وقد يزعم البعض بكل تأكيد أن إفلات اليونان من ورطتها بفضل إعادة الهيكلة غير الطوعية، من شأنه أن يغري غيرها بتجربتها. وبالتالي فإن الأسواق المالية، المنزعجة إزاء هذا، قد تسارع إلى رفع أسعار الفائدة على بلدان أخرى معرضة للخطر في منطقة اليورو، كبيرها وصغيرها.
ولكن الدول الأكثر عُرضة للخطر باتت مستبعدة بالفعل من قِبَل الأسواق المالية، وعلى هذا فإن احتمال حدوث ذعر كردة فعل سوف يكون محدودا. لا شك أن دولاً أخرى قد تستسلم لإغراء تقليد اليونان إذا وجدت أن اليونان في حال أفضل حقاً بعد إعادة الهيكلة مقارنة بعدم إعادة الهيكلة. وهذا صحيح، ولكن الجميع يدركون هذه الحقيقة بالفعل.
ولكن لا ينبغي لسلوك البنك المركزي الأوروبي أن يدهشنا: فكما رأينا في أماكن أخرى، تميل المؤسسات غير الخاضعة للمساءلة الديمقراطية إلى الوقوع في أسر المصالح الخاصة. وكان هذا صادقاً حتى قبل عام 2008؛ ومن المؤسف بالنسبة لأوروبا ــ والاقتصاد العالمي ــ أن المشكلة لم تعالج بالشكل اللائق الوافي منذ ذلك الوقت.
جوزيف ئي. ستيجليتز أستاذ بجامعة كولومبيا، وحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد، ومؤلف كتاب "السقوط الحر: الأسواق الحرة وإغراق الاقتصاد العالمي".